مركز ”إثراء” يستشرف مستقبل اللغة العربية ويدعو لتعزيز حضورها التقني والحضاري
ناقش مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء» مستقبل اللغة العربية ومسارات انتقالها من كونها تراثًا معرفيًا إلى لغة حاضرة وفاعلة في الاستخدام اليومي والتقني. جاء ذلك خلال جلسة حوارية ثرية بعنوان «نحن واللغة: من التراث إلى التداول»، عُقدت ضمن فعاليات اليوم العالمي للغة العربية التي انطلقت في 18 ديسمبر بمقر المركز في الظهران. واستمرت هذه الفعاليات على مدار ثلاثة أيام تحت شعار ملهم وهو «اللغة الشاعرة».
أدار الجلسة باقتدار الأستاذ حاتم الشهري، وشهدت مشاركة متميزة من رئيس قطاع الحوسبة اللغوية في مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الدكتور عبدالله الفيفي، والرئيس التنفيذي لمركز أبوظبي للغة العربية الأستاذ سعيد الطنيجي. تناولت الجلسة سبل تطوير اللغة العربية وتعزيز حضورها المعاصر، مع التركيز على تحويلها من مخزون تراثي ساكن إلى عنصر فاعل وحي في الحياة الثقافية، ومكسب حضاري واقتصادي يدعم مسيرة التنمية الشاملة.
وأكد المتحدثون خلال الحوار أن استمرار اللغات وقوتها مرتبط بشكل وثيق بقدرتها على التكيّف مع التحولات التقنية المتسارعة التي يمر بها العالم. أشار المشاركون إلى أهمية الاستثمار الضخم في مجالات الحوسبة اللغوية والذكاء الاصطناعي لدعم المحتوى العربي الرقمي. أوضح الدكتور عبدالله الفيفي أن اللغات التي كُتبت هي التي كُتب لها البقاء تاريخيًا، بينما اللغات التي ستستمر في المستقبل هي تلك التي تراهن على التقنية والابتكار، مؤكدًا امتلاك العربية للمرونة اللازمة للاستخدام التقني متى ما توفرت المشاريع الداعمة.
مبادرات حاسمة لربط الأجيال باللغة
استعرضت الجلسة الحوارية عددًا من المبادرات التعليمية والموسوعات الشعرية والمعرفية الطموحة التي تهدف إلى تقريب اللغة العربية من الأجيال الجديدة. تسعى هذه المشاريع إلى جعل العربية لغة حية في الاستخدام اليومي، خاصة ضمن السياقات الثقافية والتعليمية التي تهم الشباب. كشف الدكتور الفيفي، في هذا السياق، عن مشروع ضخم لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يهدف لإنشاء مدونة صوتية متكاملة تضم 54 لهجة سعودية متنوعة، لتوثيق التنوع اللغوي الفريد وتعزيز حضوره في الدراسات اللغوية الحديثة.
وشدد الأستاذ سعيد الطنيجي من جانبه على ضرورة تطوير الفعاليات الثقافية المرتبطة باللغة العربية بأساليب مبتكرة وجاذبة. دعا الطنيجي إلى تحويل معارض الكتب من صيغها التقليدية الجامدة إلى مهرجانات وكرنفالات ثقافية تفاعلية قادرة على جذب مختلف الفئات العمرية. تهدف هذه الرؤية إلى تعزيز ارتباط المجتمع باللغة العربية وجعلها جزءًا من الهوية اليومية والممارسات الاجتماعية الممتعة.
وأشار الطنيجي أيضاً إلى طموح مركز أبوظبي للغة العربية الكبير بأن تكون اللغة العربية بحلول عام 2040 ضمن مصاف اللغات العالمية الرائدة في كافة المجالات. يتم العمل على هذا الهدف عبر إطلاق برامج إستراتيجية تدعم الاستدامة الثقافية وتضمن حضور اللغة القوي في مختلف القطاعات الاقتصادية والعلمية. تعكس هذه الخطوات الرغبة الجادة في استعادة الريادة اللغوية على الخارطة العالمية.
تكامل مؤسسي لمواكبة التحولات المستقبلية
اختُتمت الجلسة بالتأكيد الجماعي على ضرورة تكامل الجهود بين مختلف المؤسسات اللغوية والثقافية في المنطقة العربية. يرى المشاركون أن توحيد الرؤى والاستثمار المشترك في التقنيات الحديثة يمثلان الضمانة الأساسية لاستعادة مكانة اللغة العربية المرموقة. يجب تطوير المبادرات التي تعيد تقديم اللغة بروح معاصرة قادرة على مواكبة التحولات المستقبلية ومتطلبات سوق العمل العالمي.
ويُعد دور المراكز الثقافية مثل «إثراء» محوريًا في خلق هذه المساحات النقاشية التي تجمع بين التراث والحداثة. بناءً على مخرجات الجلسة، يتضح أن اللغة العربية تملك مقومات البقاء والتمدد إذا ما تم تطويع أدوات الذكاء الاصطناعي لخدمة قواعدها وجمالياتها. بالتالي، تبرز الحاجة الملحة لدعم الباحثين والمطورين في مجال المعالجة الآلية للغة العربية لردم الفجوة الرقمية القائمة.
وتُظهر هذه الفعاليات الالتزام الراسخ للمملكة العربية السعودية ودول المنطقة برعاية اللغة الأم وصونها كوعاء للثقافة والحضارة. يُنتظر أن تسفر هذه النقاشات عن مشاريع عملية ملموسة تُترجم التوصيات إلى واقع يعيشه المتحدث بالعربية في عالم التقنية. هكذا، تظل العربية "لغة شاعرة" و"لغة تقنية" في آن واحد، تجمع بين سحر الماضي وآفاق المستقبل الواعد.



